Tuesday, April 23, 2019

مدن تستدعي تحذيرا طبيا قبل زيارتها

كان من المفترض أن يعود الشاب أوليفر ماكافي إلى دياره بحلول فترة الاحتفال بأعياد الميلاد "الكريسماس" في عام 2017. لكن هذا الشاب البالغ من العمر 29 عاما والقادم من أيرلندا الشمالية، اختفى تماما عن الأنظار منذ الحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام.
وقبل اختفائه، كان ماكافي يستقل دراجته على طريقٍ يُعرف بـ "مسار إسرائيل الوطني"، مارا بالقرب من مدينة متسبيه ريمون الصحراوية. وقد عُثِرَ على دراجته وخيمته بعد شهرين من اختفائه في جنوبي إسرائيل، ووُجِدَتْ متعلقاته من مفاتيح وجهاز كمبيوتر محمول وحافظة نقود، على طول المسار الذي كان يسير عليه، وسُلِمَت فيما بعد للسلطات.
وفي تلك الآونة، سارعت وسائل الإعلام إلى الحديث عن إمكانية أن يكون ماكافي قد أصيب بـ "متلازمة القدس"، وهي حالة نفسية أو بالأحرى انفصال عن الواقع، ترتبط في أغلب الأحيان بالمرور بتجارب ذات طابع ديني. ويعاني المصابون بهذه المتلازمة من "جنون الارتياب" أو "البارانويا"، إذ يرون ويسمعون أشياء ليست موجودة على الإطلاق، كما أنهم يصبحون "ممسوسين" ومصابين بـ "الهوس". ويتطور الأمر في بعض الأوقات ليختفوا تماما عن الأنظار.
وفي أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، قال أطباء في مستشفى كفار شاؤول للصحة النفسية في إسرائيل إنهم يفحصون نحو مئة سائح سنويا من المصابين بهذه المتلازمة، يحتاج قرابة 40 منهم لدخول المستشفى.
ويشكل المسيحيون غالبية هؤلاء الأشخاص، ويوجد بينهم بعض اليهود أيضا، بجانب عدد أقل من المسلمين. وكتب الأطباء الإسرائيليون في دورية بريطانية معنية بالطب النفسي أن "متلازمة القدس" هي شكل من أشكال الاضطرابات العقلية، التي تحدث في مدينة "تستحضر شعورا بما هو مقدس وتاريخي وسماوي كذلك.
ويعاني كثيرون ممن شخصت إصابتهم بهذه المتلازمة، من الأصل من اضطرابات نفسية، من قبيل الانفصام في الشخصية أو "الاضطراب الوجداني ثنائي القطب"، وهي مشكلات دفعت بهم إلى الشروع في مهمة مقدسة وهمية.
وتحدث الأطباء الإسرائيليون عن حالة سائح أمريكي مصاب بالانفصام في الشخصية، بدأ بالتدرب على رفع الأثقال في منزله، ثم شرع تدريجيا في تقمص شخصية "شمشون" التوراتية. سافر هذا الرجل إلى إسرائيل، وركز اهتمامه على تحريك كتل حجرية عملاقة من الجدار الغربي للمسجد الأقصى الذي يعرفه الإسرائيليون باسم "حائط المبكى". وقد أوقفته الشرطة وأُدْخِلَ إلى المستشفى، وعولج بالعقاقير المضادة للذهان، قبل أن يُعاد إلى وطنه برفقة والده.
لكن هناك من أصيبوا باضطرابات نفسية لدى زيارتهم القدس، دون أن يكون لهم تاريخ مع ذلك النوع من الأمراض. ورغم أن عدد هؤلاء محدود نسبيا، إذ يصل إلى 42 من أصل 470 سائحا أُدْخِلوا المستشفيات على مدار 13 عاما للعلاج من مثل هذه الاضطرابات، فإن حالاتهم كانت مأساوية ودراماتيكية بقدر ما كانت غير متوقعة.
وعادة، يصبح أولئك الأشخاص مهووسين بفكرة النظافة والطهارة فور وصولهم إلى القدس تقريبا، ما يتجلى في حرصهم على الاستحمام لعدد لا حصر له من المرات، وإلزامهم لأنفسهم بقص أظافر أصابع اليدين والقدمين. ويرتدي هؤلاء ملابس بيضاء اللون، يأخذونها غالبا من المفارش الكتانية التي تغطي أَسِرَة الفنادق التي يقيمون فيها. كما يلقون عظات ويرددون مزامير وتراتيل دينية في الشوارع، أو في أي من البقاع المقدسة في المدينة.
وتستمر هذه الاضطرابات النفسية عادة لأسبوع أو نحو ذلك. ومع أنهم عُولِجوا في بعض الأحيان بالعقاقير المُسَكِنة وجلسات العلاج النفسي، فإن علاجهم كان يتمثل في "الإبعاد الفعلي عن القدس ومواقعها المقدسة".
وفي المقال الذي نشرته الدورية الطبية البريطانية، قال الأطباء الإسرائيليون إن هؤلاء السائحين - الذين ينتمون عادة إلى أسر من غلاة المتدينيين- يعانون من عدم الانسجام ما بين الصورة المثالية الراسخة في اللاوعي لديهم عن القدس والحقيقة الماثلة أمام أعينهم لها كمدينة تجارية صاخبة وغاصة بروادها، وهو ما يؤدي لإصابتهم بتلك المتلازمة.
وقال واحد ممن كتبوا عن هذه المتلازمة إن القدس ربما تشكل "أرضا خصبة للوهم الجماعي"، في إشارة إلى قرون من النزاعات التي نشبت بين الأديان بشأنها، وما نجم عنها من "خلافات ومؤامرات". وفي واقع الأمر، لا تشكل "متلازمة القدس" محنة من نوع جديد؛ فما توصف به أعراضها يُذكّر بحالات رُصِدَتْ في العصور الوسطى كذلك.
وإذا عدنا لحالة أوليفر ماكافي، فسنجد أن احتمال إصابته بـ "متلازمة القدس"، لم يكن جديدا في ظل ما كان معروفا عنه من الأصل من أنه مسيحيٌ متدين.
وقد أشار المحققون في واقعة اختفائه إلى العثور على أسفار ممزقة من الكتاب المقدس مُثبتة بثقالات من الصخور في المكان الذي اختفى فيه، بالإضافة إلى كتابات دينية بخط يده، وإشارات خطّها تتناول انخراط السيد المسيح في الصيام في الصحراء، فضلا عما ذكره تقريرٌ بشأن العثور على ما سُمي "معبدا" أو "كنيسة"، في إشارة إلى منطقة رملية تم تسويتها وإحاطتها بدائرة من الأحجار.

No comments:

Post a Comment